قراءة فى أربع سنوات من التحول داخل الاتحاد الدولي للسيارات FIA

على مدى أكثر من قرن، ظل الاتحاد الدولي للسيارات أحد أعمدة رياضة المحركات عالمياً، والمرجعية العليا لتنظيم المنافسات، وضمان السلامة، وتطوير مفاهيم التنقل على الطرق.
غير أن هذه المؤسسة العريقة وجدت نفسها، قبل أربع سنوات فقط، أمام واقع بالغ التعقيد؛ خسائر مالية متراكمة، تراجع فى فاعلية الدور المؤسسى، غياب استراتيجية تواصل واضحة، وتساؤلات حقيقية حول قدرتها على مواكبة عالم تتسارع فيه التحديات الرياضية والاقتصادية والتكنولوجية.
فى تلك اللحظة الفاصلة، لم يكن المطلوب مجرد تغيير إدارى، بل رؤية مختلفة تعيد تعريف دور الإتحاد، وتُعيد الثقة، وتضع الاتحاد على مسار أكثر استدامة.
مؤسسة عريقة عند مفترق طرق
مع انتخابات 2021 كان الاتحاد يواجه أزمة متعددة الأبعاد:
خسائر تجاوزت 24 مليون يورو، وانخفاض فى العضوية، وتراجع فى صورة المؤسسة لدى الأندية والشركاء التجاريين.
غياب التنسيق الداخلى وضعف أدوات الحوكمة جعلا القرارات بطيئة التأثير، فى وقت كانت فيه رياضة السيارات تشهد تحولات جذرية تتطلب سرعة ووضوحاً فى الرؤية.
يقول روس براون، المدير التنفيذى السابق لفريق سباقات الفورمولا 1، “الاتحاد كان يواجه فجوة بين حجم مسئولياته العالمية وقدرته التنفيذية، وهو وضع لا يمكن أن يستمر طويلاً”.
لحظة التحول… وطريق محفوف بالتحديات
مع انتخاب محمد بن سليم رئيساً للاتحاد فى نهاية 2021، بدأت مرحلة إصلاح شاملة، لم تنطلق من نقطة الصفر، بل من واقع معقد تراكمت فيه التحديات لسنوات.
أولى هذه التحديات تمثلت فى إرث مالى مثقل بالخسائر، فرض على القيادة الجديدة اتخاذ قرارات صعبة تتعلق بضبط الإنفاق وإعادة ترتيب الأولويات، دون الإضرار بدعم الأندية أو الدور العالمى للاتحاد.
فى الوقت ذاته، واجهت عملية الإصلاح مقاومة داخلية طبيعية داخل مؤسسة دولية عريقة، اعتادت نمطاً إدارياً تقليديا.
إدخال نماذج حوكمة أكثر صرامة، وتوسيع نطاق التدقيق الخارجى، وتعزيز الشفافية المالية، لم تكن خطوات إجرائية فحسب، بل تحولاً ثقافياً فى طريقة التفكير والعمل.
يقول الخبير الإداري فى شئون الرياضة الدولية مارك جالاجر: “تغيير العقلية داخل مؤسسة بحجم FIA هو التحدى الأصعب، لكنه الأكثر تأثيراً على المدى الطويل”.
وعلى الصعيد الرياضي، برز تحدٍ آخر تمثل فى تحقيق التوازن بين متطلبات البطولات الكبرى ومصالح الأندية الوطنية، فى ظل مطالب متزايدة بتقليل التكاليف، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتحقيق الاستدامة، دون المساس بجوهر التنافس أو معايير السلامة.
من الخسارة إلى الاستقرار
رغم صعوبة الطريق، بدأت نتائج الإصلاح تظهر سريعاً:
تحولت الخسارة إلى ربح بلغ 4.7 مليون يورو، وحقق الاتحاد رقم أعمال قياسياً وصل إلى 182 مليون يورو، مما أتاح زيادة الاستثمار المباشر فى الأندية الأعضاء.
تم اعتماد نموذج توجيه مالى جديد، وأفضل ممارسات محاسبية، مع رقابة صارمة على الميزانيات وتدقيق خارجى مستقل.
الأندية أصبحت تتلقى دعماً أسرع، وتوجيهاً أوضح، وموارد أكثر لتنفيذ برامج السلامة على الطرق وتطوير رياضة السيارات محلياً.
ويقول بن سليم فى هذا السياق: “الاستقرار المالى ليس هدفاً فى حد ذاته، بل وسيلة لتمكين الأندية من خدمة مجتمعاتها بشكل أفضل.”
هوية جديدة وتواصل أكثر وضوحاً
قبل هذه المرحلة، لم يكن للاتحاد استراتيجية تواصل متكاملة.
اليوم، أصبح يُعرف كجهة تقف عند تقاطع الرياضة والتنقل والسلامة، وتُبرز الدور اليومى للأندية الأعضاء حول العالم، ولم يعُد الأمر يقتصر على أضواء البطولات فقط.
هذا الوضوح انعكس على الجانب التجارى، حيث تم جذب أكثر من 30 شريكاً جديداً خلال أربع سنوات.
المحلل الاقتصادى الرياضى نيكولا فونك يرى أن “الاستقرار الإدارى ووضوح الرسالة أعادا الثقة التجارية فى الاتحاد كمؤسسة عالمية موثوقة.”
المعرفة، والسلامة، والمسئولية المجتمعية
نمت جامعة الاتحاد الدولى للسيارات لتصبح منصة تعليمية رائدة عالمياً، تضم أكثر من 60 برنامجاً لتدريب المسئولين، وتثقيف السائقين الشباب، وتحسين معايير السلامة على الطرق.
وفى مواجهة التحديات الرقمية، أطلق الاتحاد حملة “متحدون ضد الإساءة عبر الإنترنت”، وهى تضم أكثر من 75 منظمة من اتحادات وحكومات ومؤسسات أكاديمية وتكنولوجية.
فى الجانب الرياضى، تحقق تقدم ملموس فى السلامة:
إجراءات أمان جديدة ساهمت فى تقليل شدة الحوادث الخطيرة بنسبة 50% فى الراليات الصحراوية.
بفضل تقنيات أمان مُحدثة، أصبحت إصابات اليد فى سباقات الفورمولا E أقل بكثير مما كانت عليه سابقاً بنسبة 40%..
تطوير أنظمة أمان متقدمة فى الكارتينج والراليات باستخدام بيانات التأثير والكاميرات الذكية.
الرياضة أصبحت أقرب للجميع
رياضة السيارات لم تعد حكراً على مناطق محددة، بل توسعت جماهيرياً لتصل إلى أكثر من مليار متابع حول العالم، مع صعود واضح لأسواق جديدة.
برامج مثل “arrive and drive”، وخطة الكارتينج العالمية، و”رياضة السيارات فى صندوق”، فتحت أبواب المشاركة أمام فئات لم يكن الوصول إليها ممكناً من قبل.

تثبيت الحاضر وتأمين المستقبل
اتفاقية كونكورد للفورمولا 1 لعام 2025 أرست نموذج حوكمة أكثر تنظيماً واستقراراً، بينما أكد تمديد عقد الفورمولا E لعشر سنوات نمو البطولة وابتكارها المستدام.
كما شهدت بطولة العالم للراليات تعزيزاً من خلال اختيار جهات أخرى جديدة تتولى تنظيم وإدارة البطولة بشروط تجارية أفضل.
تمكين الأندية ظل محوراً أساسياً، مع تعيين منسقين إقليميين، وتوسيع برامج الدعم عبر صندوق تنمية الرئيس وبرامج التطوير الإقليمى، خاصة فى الدول الأقل نمواً.
نحو مستقبل مشرق
بعد أربع سنوات من الإصلاح فى بيئة لم تخلُ من التحديات، يقف الاتحاد الدولى للسيارات اليوم أكثر تماسكاً، وأكثر وضوحاً فى الرؤية، وأقرب إلى أنديته ومجتمعاته.
إعادة انتخاب محمد بن سليم لولاية جديدة جاءت تعبيراً عن ثقة الأعضاء فى مسار الإصلاح، ورسالة بأن ما تحقق ليس نهاية الطريق.
فى تصريحاته الأخيرة، أكد بن سليم أن المرحلة المقبلة ستركز على تعميق تمكين الأندية، وتوسيع الوصول للشباب، وتعزيز الاستدامة، وترسيخ ثقافة السلامة فى جميع البطولات، كما شدد على أن “ما تحقق حتى الآن هو الأساس فقط، والطموح أكبر من أن يتوقف عند حدود الأرقام.”
واليوم، أصبح الاتحاد الدولي للسيارات منصة عالمية للمعرفة والابتكار والمسئولية المجتمعية، جاهزاً لكتابة فصل جديد من الإنجازات، ومؤهلاً لإشراك جيل جديد من الرياضيين والمجتمعات حول العالم فى رحلة رياضية مستدامة وآمنة، برؤية واضحة ومستقبل أكثر إشراقاً.




